مقالات

صلاة التراويح في ثوب جديد

images

لحكمة ما،أراد الرحمن الرحيم ،رحمة بنا،في زمن التيه والجهالة، أن يدلَّنا مرة أخرى على منبع النور وطريق النجاة.لسنين عديدة واصواتنا ترتفع بالقرآن ونحن لا نسمعه وكأن في آذاننا وقرا.  ولسنين عديدة ونحن نُعلّمه ولا نتعلم منه ونستشهد به ولا نشهد له .اتخدناه ظهريا وزعمنا الانتصار له ،فقلَّ الانتفاع ببركاته والإهتداء بأنواره .فربما حلّت بالبشرية هذه الجائحة ليعود المسلمون ،ولو فرادى ،إلى كتاب ربهم ، منبع السعادة في الدنيا والآخرة ، يزينون بآياته بيوتهم بعد أن كانت خرابا ، لسنين عديدة.

بسم الله الرحمن الرحيم
لسنين عديدة وكلما حل الشهرالفضيل،أعددت القميص أو"الجلابة" و" الزربية ديال الصلاة" وكأن الصلاة لا تصح إلا بها ،( ثم انضافت في الأعوام الأخيرة موضة " قنينة الماء" ،يضعها كل مصل أمامه ليرفعها بيده اليسرى بعد كل ركعة يبلُّ بها ريقه) ،ثم أخرت جميع برامجك من لقاءات في المقاهي أو البيوت أوعلى ضفاف البحر إلى ما بعد صلاة التراويح.
اسم جميل وجو جميل ولقاء فريد مع كتاب الله وفي محراب الطاعة الجماعية ،كل بحسب نية معراجه ولا يحق لأحد مهما كان أن يصادر النوايا أو ينبش في مكنونات الصدور.المهم أن الجو العام والعبادة المجتمعية تجعلك تنخرط طواعية في لقاء خاص مع كتاب الله. الذي يحرص البعض أن يسمعه كاملا ولو مرة في السنة.
ولسنين عديدة وانت لا تحمل همّ كيفية أداء تلك الركيعات من سنّة التراويح ، فالمساجد مفتوحة ومزينة بالأضواء والبخور، وأصوات الأئمة التالين لكتاب الله متنوعة ، تختار منها ما يشنف سمعك أو ما يحرك دواخلك ،وما عليك إلا أن تأخد مكانك بين المصلين لساعة وربما أقل ،تستمع فيها لآيات من كتاب ربك، خاشعا متدبرا لما يتلى عليك (إن لم تصرفك هواجس الدنيا ومشاغل الحياة عن الاستمتاع بتلك اللحظات النفيسة) وحال الانتهاء من دعاء الختم ،تجد عشرات المتسولين في انتظارك يساعدونك في تلقي ما يجود به جيبك كل ليلة، فينشرح صدرك أكثر، وتشعر انك حقا في شهرالرحمة. وفي زحمة الجمع الغفيرتلتقي صدفة صديقك القديم أو جارك القريب ـ البعيد، أو قريبك الذي لم تره منذ رمضان الماضي فتتبادلون التحية والملامة وتطلبون من الله العفو والعافية ،وها قد انتهت الليلة بسلام ، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ...وإلى الليلة القادمة..
لسنين عديدة وجمع غفيرمن المسلمين،على اختلاف أهوائهم ودرجات إيمانهم وتنوع معاملاتهم ، يقبلون في شهر الصيام والقيام على بيوت الله منخرطين جماعيا في طقس فريد من نوعه، كريم في عطائه ، عظيم في أوقاته ، يغترف كلُّ منه حسب احتياجه ووفق ظمئه وبقدراستمداده .إلا أنه وفي ظل الركون لهذا الفضل المبسوط لسنين عديدة ،الجاهزكل سنة ، دون سابق جهد فردي أوإعداد ،يجد المسلمون اليوم أنفسهم في جل بقاع المعمور،مبعدين عن التماس ذاك الفضل الكبير بشكله المعتاد، فقد أغلقت المساجد، وألغيت الجماعات والجمعات ولن تقام سنة التراويح في جل بلاد الاسلام .والمانع عدو معلوم مجهول ، خطير مميت ، شامل وعام ، فكيف السبيل إلى الفضل الكبير في الشهر الفضيل؟ قضاء من الله ولا راد لقضائه إلا برحمة منه وعفو، فكيف نجتهد في الدعاء ونتضرع وبيوت الله مغلقة ؟

من الحكم البليغة :"ما لا يدرك كله فلا يترك جله " ونظيرها في الوحي قول الله تعالى:  } فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ {(التغابن:16.) وقول النبي صلى الله عليه وسلم:  " وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم."  (متفق عليه.)
وإزاء الحالات الخاصة الاستثنائية أمرنا الشارع أن نأخد بالبدائل لا سيما إذا كان الأمر يتعلق يالحفاظ على الأنفس .ودعك مما يتداوله باعة الإثارة بكل ألوانها واحرص عوض ذلك أن تسمع لنداء الفطرة في داخلك لأنها الفرصة الأمثل للاستفاقة من نوم ثقيل دام سنين عديدة .إنه الامتحان الفردي في الوقت العصيب .هل سيرى الله منك ما كنت تظهره لمّا كانت العبادة الجماعية قائمة،أم ستحسب أن الأمريتجاوزمقدورك فتدير ظهرك لموسم الفضل وتعرض عن الطلب. ابتلاء وفرصة ذهبية لتربي في نفسك القدرة على الانسجام مع الأوضاع الجديدة ...وهذا في العلاقات الحياتية اليومية مع أسرتك ومع الناس فكيف بعلاقتك مع الخالق، مع رب رمضان ومنزل القرآن ..إنها فرصتك للانصهار في الوضع الطارئ الجديد ، بوعي جديد لمفهوم التدين ، فهم جديد لروح العبادة من صلاة وذكر وزكاة .

لقد انخرطنا لسنين عديدة في عبادات صماء عمياء لا روح فيها ولا حياة ، وفي طيات المحنة الحالية من المنح والهبات الربانية ما سيمكننا ،إن أحسنا الفعل ، من إعادة الحياة لعلاقتنا مع رمضان ومع كتاب الله.كنتَ لسنين عديدة تصلي وراء الإمام ، وربما بعد الصلاة مباشرة اظهرت لمرافقيك عدم الرضا عن قراءته او انتقصت من قدره لأنه أسقط سهوا كلمة أو آية في قرائته. اليوم ،إن أحسنت التوجه ،تستطيع أن تكون أنت الإمام ووراءك زوجتك وأبناؤك ،يصلون بصلاتك، ويسمعون تلاوتك لكتاب ربك ، فانظركيف تعيش تلك التجربة وكتاب الله تحت بصرك ، ولا بأس أن ترتكب بعض أخطاء التلاوة فالذي تناجيه عفو غفور. اقرأ واسمعه أبناءك فهم لم يسمعوه من قبل منك ولا جدران البيت الذي تسكنه. وبعد السلام احرص على التضرع بالدعاء بما شئت.. تدعو ومن وراءك يؤمنون .أليس هذا بالفضل الكبير؟ ألا تتنزل البركات والرحمات والسكينة على بيت هذا حاله؟  بلى والله .فسارع إلى اكتشاف ما غاب عنك منذ سنين فهذه فرصتك ليُفتح لك.لك شهركامل لتتلو كتاب الله وتكتشف بنفسك كهوفه فلن ترى ما بداخلها حتى تدخلها ..ادخل في رمضان هذا العام كما لم تدخل من قبل وارتع في رياض القرآن..فاللحظة غالية وفريدة ولربما كانت بداية عهد جديد .

لحكمة ما،أراد الرحمن الرحيم ،رحمة بنا، في زمن التيه والجهالة،أن يدلَّنا مرة أخرى على منبع النور وطريق النجاة. لسنين عديدة واصواتنا ترتفع بالقرآن ونحن لا نسمعه وكأن في آذاننا وقرا..ولسنين عديدة ونحن نُعلّمه ولا نتعلم منه ونستشهد به ولا نشهد له ..اتخدناه ظهريا وزعمنا الانتصار له ، فقلَّ الانتفاع ببركاته والإهتداء بأنواره .فربما حلّت بالبشرية هذه الجائحة ليعود المسلمون ،ولو فرادى ،إلى كتاب ربهم ، منبع السعادة في الدنيا والآخرة ، يزينون بآياته بيوتهم بعد أن كانت خرابا ، لسنين عديدة.

بارك الله للجميع هذا الشهرالفريد في زمانه
ووفقنا بفضله لحسن الانتفاع بأنواره.

ذ.محمد الجابري

هولندا / 28  شعبان 1441 / 22 أبريل 2020