خطب ومحاضرات

نموذج أسرة أم سليم

الأسرة المسلمة

الأسرة المسلمة مسؤولة أمام الله عن تربية الأولاد على تعاليم الدين الإسلامي وهذه هي رسالتها الأولى، قبل توفير الأكل واللباس والدراسة .فهل نعي قدر وعظم هذه المسؤولية؟هل الأسر المسلمة اليوم لها من الوعي والقوة ولها من العلم بدينها ما تقاوم به هذه الموجات الخطيرة من التغريب والتخريب؟لا سيما في هذه البلاد.

الحمد لله القاهر. خلق الخلق من غير سبق .فطر السماوات والأرض بقدرته، ودبر النور في الدارين  بحكمته، وما خلق الإنس والجن إلا لعبادته، فالطريق إليه واضح ، ولكن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء، وهو أعلم بالمهتدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة ورضي لنا الإسلام ديناً، والصلاة والسلام عليك يا سيدي يا رسول الله،صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين وعلى آلك وأصحابك وسلم.أما بعد أيها المسلمون: تحدثنا في جمعتين متتاليتين عن واجبات وحقوق كل زوج نحو زوجه.وقلنا أنه إذا ضمن كل واحد من الزوجين للآخر هذه الحقوق وحافظ كل من الزوجين على واجباته،كانت النتيجة أسرة صالحة مهتدية بنورالله المتمثل في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.عباد الله ،الأسرة المسلمة مسؤولة أمام الله عن تربية الأولاد على تعاليم الدين الإسلامي وهذه هي رسالتها الأولى، قبل توفير الأكل واللباس والدراسة .فهل نعي قدر وعظم هذه المسؤولية؟هل الأسر المسلمة اليوم لها من الوعي والقوة ولها من العلم بدينها ما تقاوم به هذه الموجات الخطيرة من التغريب والتخريب؟لا سيما في هذه البلاد. إن الأسرة المسلمة إذا قامت على البر والإحسان وتمسكت بأخلاق الإيمان وطبقت تعاليم الإسلام،استطاعت هذه الأسرة أن تخرج للمجتمع رجالا صالحين ونساء صالحات.وإذا كان لنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة فإن لنا أيضا في أصحابه رضي الله عنهم أسوة حسنة. نتعرف اليوم على أسرة يحبها الله وتحبه, أسرة يحبها رسول الله وتحبه,فحاجتنا لمعرفة هذه النماذج ومعرفة المنهج الذي عاشوا عليه والمبادئ التي تربوا عليها, حاجتنا إلى هذا النموذج حاجة ضرورية خصوصًا في واقعنا المليء بنماذج لأسر سيئة. العديد من العائلات في بلاد المهجر تعيش الجحيم والشقاء، تعيش الأزمات تلو الأزمات.الأسرة التي سأتحدث عنها هي أسرة أم سُلَيم ،هذه المرأة الصالحة، هذه الصحابية الجليلة

أم سُلَيم رضي الله عنها،المكناة بالرُّمَيْصَاء،قال عنها النبي :(رَأَيْتُنِي دَخَلْتُ الْجَنَّةَ فَإِذَا أَنَا بِالرُّمَيْصَاءِ امْرَأَةِ أَبِي طَلْحَةَ) أخرجه البخاري ومسلم. ورؤَى الأنبياء وحي وحقّ .امرأة لا كالنساء،صحابية جليلة, مبشرة بالجنة، وهذه البشارة بالجنة تجعلنا نتساءل: كيف وصلت هذه المرأة إلى هذه المرتبة؟ لما أسلمت جاءت إلى مالك زوجها، وكان رجلا لا يفارق الخمر،فقالت: جئت اليوم بما تكره، فقال: لا تزالين تجيئين بما أكره من عند هذا الأعرابي، قالت: كان أعرابيًا اصطفاه الله واختاره وجعله نبيًا، قال:ما الذي جئت به؟ قالت: حُرِّمت الخمر، قال:هذا فراق بيني وبينك،فمات مشركًا،وتركها وأبناءها (رواه البزار).كان هذا أول امتحان تعرضت له هذه المرأة الصالحة المؤمنة، امتحان عسير،إذ ليس من السهل أن تعرض أسرتك بين عشية وضحاها لزلزال عظيم مثل هذا في سبيل الإسلام. جاءها أبو طلحة الأنصاري ـ وهوالمكوِّن الثاني للأسرة المؤمنة ـ يخطبها، وقد ترك لها مالك وَلَدين: أنس بن مالك والبراء بن مالك رضي الله عنهما. فقالت أم سُلَيم رضي الله عنها: يا أبا طلحة، أنت لست ممن يُردّ، ولكنك مشرك نجس، وأنت محرّم عليَّ ما دمت مشركًا، قالت: فإني أشهدك وأشهد نبي الله أنك إن أسلمت فقد رضيت بالإسلام منك، قال: فمن لي بهذا؟ قالت: يا أنس، قم فانطلق مع عمك، قال: فقام فوضع يده على عاتقي،فانطلقنا حتى إذا كنا قريبًا من نبي الله فسمع كلامنا فقال:(هذا أبو طلحة بين عينيه عزة الإسلام)، فسلم على نبي الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، فزوّجه رسول الله على الإسلام.( رواه البزار).وكان هذا الصداق ـ الإسلام ـ أعظم صداق في المدينة المنورة.حسن إسلام الرجل، فصار رضي الله عنه مضرب المثل في النفقة والاستجابة لأمر الله تعالى. أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ الأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ مَالاً مِنْ نَخْلٍ، وَكَانَ أَحَبُّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ، وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِد،ِ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ. قَالَ أَنَسٌ: فَلَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92] قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ فَقَال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ، وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ، فَضَعْهَا ـ يَا رَسُولَ اللَّهِ ـ حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ.قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ :(بَخٍ! ذَلِكَ مَالٌ رَابِح،ٌ ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ،وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الأَقْرَبِينَ)،فَقَالَ: أَبُو طَلْحَةَ أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ.فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ.كما أصبح هذا الرجل العظيم من كبارالصحابة المجاهدين،شهد المشاهد كلها مع رسول الله ، وكان له يوم أحد موقف مشهود، إذ ثبت مع القلة مع الرسول وقال عنه : (لَصَوْتُ أَبِي طَلْحَةَ فِي الْجَيْشِ خَيْرٌ مِنْ فِئَة)( رواه أحمد) . ويوم حنين حين ضاقت على المسلمين الأرض بما رحبت كان أبو طلحة كعادته من أبرز أبطالها الصامدين.عن أنَسِ بنِ مَالِكٍ قالَ: قالَ رَسُولُ الله يَوْمَئِذٍ ،يَعْنِي يَوْمَ حُنَيْنٍ:(مَنْ قَتَلَ كَافِرًا فَلَهُ سَلَبُهُ)، فَقَتَلَ أبُو طَلْحَةَ يَوْمَئِذٍ عِشْرِينَ رَجُلاً وَأخَذَ أسْلاَبَهُمْ.(أخرجه أبُو دَاوُدَ).وتابع مسيرته الجهادية في كبره حتى لقي الله تعالى. "عن أنس: أن أبا طلحة قرأ سورة براءة فأتى على هذه الآية: انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً [التوبة:41] فقال: ألا أرى ربي يستنفرني شابًا وشيخًا؟ جهزوني. فقال له بنوه: قد غزوت مع رسول الله حتى قبض، وغزوت مع أبي بكر حتى مات، وغزوت مع عمر، فنحن نغزو عنك. فقال: جهزوني.فركب البحر فمات. فلم يجدوا له جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد سبعة أيام فلم يتغير . "(رواه أبو يعلى).لقي الله تعالى بعد عمرٍ حافل بخدمة الإسلام سنة 34 للهجرة، وهو ابن70 سنة رضي الله عنه.

العنصر الثالث من هذه الأسرة هو أنس بن مالك رضي الله عنه الذي خدم رسول الله عشر سنوات، حرصت أمه أن يكون رفيقَ سيد الخلق ، فجاءت به إلى رسول الله فقالت: يا رسول الله، خادمك أنس ادع الله له، فقال:(اللهم أكثر ماله وولده، وبارك له فيما أعطيته)،قال أنس: فلقد دفنت من صلبي سوى ولد ولدي خمسًا وعشرين ومائة،وإن أرضي ليثمر في السنة مرتين،وما في البلد شيء يثمر مرتين غيرها.رواه الطبراني.وكان رضي الله عنه من أكثر الناس رواية عن الرسول .الشخصية الرابعة هو البراء بن مالك أخو أنس بن مالك،هذا الصحابي الجليل ، قال عنه الرسول :(كَمْ مِنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لا يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ، مِنْهُمُ الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ) (أخرجه الترمذي ) ذلك أن الإنسان لا يقاس بطوله ولا بعرضه ولا بماله ولا بجاهه ولا بسلطانه،وإنما يقاس بعمله وإيمانه.عاش هذا الصحابي الجليل مجاهدًا متفانيًا بماله ونفسه ودمه في عهد الرسول ،وفي عهد أبي بكر رضي الله عنه،وفي جهاد الفُرس استعصت معركة على المسلمين والمجاهدين فجاؤوا إلى سيدنا البراء فقالوا: إن الأمر اشتد علينا، فادع الله أن ينصرنا. المسلمين الأوائل كانوا يعرفون جيدًا أن الذي يعز من يشاء ويذل من يشاء وينصر من يشاء هو الله،وليس أمريكا ولا الأمم المتحدة: وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيم آل عمران. رفع البراء في زحمة المعركة وشدتها يديه فقال : "اللهم انصرنا، وارزقنا أكتافهم، وارزقني الشهادة في سبيلك"، فلما انتصر المجاهدون بحثوا عن البراء فإذا هو شهيد بين الشهداء.

هذه ـ أيها الإخوة عناصر هذه الأسرة العظيمة ، فما هي المبادئ التي كانت تعيش عليها ولأجلها حتى أصبحت منارة للهداية؟ أول هذه المبادئ وأعظمها هو الإسلام وأولويته على كل شيء،فعلى أساس الإسلام بُنيت الأسرة، وعلى أساسه عاشت، ، وبسببه فارقت أم سُلَيم زوجها الأول مالكًا،ولما جاءها أبو طلحة خاطبًا لم تطلب منه مالاً ولا جاهًا ولا سلطانًا،إنما طلبت منه أن يكون مسلمًا وكفى.الإنسان بلا دين مصيبة. إذا جاءك إنسان لا دين له وزوجته ابنتك فقد قطعت رحمها، قد أهلكتها.زوجها لتقيّ، إن أحبها أكرمها، وإن كرهها لم يظلمها.ثم إن هذه الأسرة ـ وعلى رأسها أم سُلَيم ـ كانت أحرص ما تكون على تعلّم دينها، فصحّ عند البخاري ومسلم عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: جَاءَتْ أُمُّ سُلَيم إِلَى رَسُولِ اللَّهِ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ، فَهَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ إِذَا احْتَلَمَتْ؟ قَالَ النَّبِيُّ :(إِذَا رَأَتِ الْمَاءَ)، فَغَطَّتْ أُمُّ سَلَمَةَ، تَعْنِي: وَجْهَهَا. وَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَتَحْتَلِمُ الْمَرْأَةُ؟! قَالَ:(نَعَمْ تَرِبَتْ يَمِينُكِ، فَبِمَ يُشْبِهُهَا وَلَدُهَا). فلقيها نسوة فقلن لها: يا أم سُلَيم، فضحتنا عند رسول الله ! قالت: ما كنت أنتهي حتى أعلم أفي حلال أنا أم في حرام.هذا مبدأ ـ أيها الإخوة المؤمنون ـ ينبغي للحياة كلها أن تتأسّس عليه، ليس هناك من عمل سرّي أو خاص بفئة دون أخرى، فالرسول بعثه الله للرجال والنساء،وما من خطوة يخطوها المسلم إلا وهو ملزم أن يعلم أفي حلال هي أم في حرام.ومن حرص أم سُلَيم على العلم ما روي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: جَاءَتْ أُمّ سُلَيم إلَى النّبِيّ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللّهِ، عَلّمْنِي كَلِمَاتٍ أَدْعُو بِهِنّ فِي صَلاَتِي، قَالَ: (سَبّحِي اللّهَ عَشْرًا، وَاحْمَدِيهِ عَشَرًا، وَكَبّرِيهِ عَشْرًا، ثُمّ سَلِيهِ حَاجَتَكِ، يَقُلْ: نَعَمْ، نَعَمْ).بل الأعظم من ذلك أن النبي لما عرف حرص هذه الأسرة على العلم والتعلم كان يخصها بزيارات،فكان كما ورد في أحاديث صحيحة يقيل عندها مرارًا،ويصلي بهم في بيتها، لماذا أيها الإخوة؟ ليتعلموا منه مباشرة وليتبرّكوا به مباشرة .وبالفعل لقد روي أنها من كثرة محبتها له وكثرة الالتصاق به لما كان يأتي منزلها تبسط له بساطًا لكي يرتاح وينام، فإذا استيقظ تجمع العرق الذي تصبّب فوق البساط، وتخلطه مع مسكها وتتطيب به رضي الله عنها .أخرج النسائي عن أنس قَالَ: أَتَانَا رَسُولُ اللّهِ فِي بَيْتِنَا فَصَلّيْتُ أَنَا وَيَتِيمٌ لَنَا خَلْفَهُ، وَصَلّتْ أُمّ سُلَيم خَلْفَنَا، وأخرج أيضا عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ اضْطَجَعَ عَلَى نَطْعٍ فَعَرِقَ، فَقَامَتْ أُمُّ سُلَيم إِلَى عَرَقِهِ فَنَشَّفَتْهُ فَجَعَلَتْهُ فِي قَارُورَةٍ، فَرَآهَا النَّبِيُّ قَال:(مَا هَذَا الَّذِي تَصْنَعِينَ يَا أُمَّ سُلَيم؟) قَالَتْ: أَجْعَلُ عَرَقَكَ فِي طِيبِي، فَضَحِكَ النَّبِيُّ .عباد الله ،الركن الأساس الذي بنيت عليه هذه الأسرة الطيبة هو الإسلام وتعلمه، فالأسرة المحرومة من مجالس القرآن، الجاهلة لأحكام القرآن، الغافلة عن قصص الأنبياء والصالحين، هذه أسرة محرومة من الخير.وهذا ـ للأسف ـ هو السائد اليوم، كثير من الأسر يسيطر على أحوالها الشيطان وجنوده ،فلا علم ولا تقوى,ولا خير ولا صلاح وإنما السائد الأغاني الماجنة والأفلام الخليعة والاهتمامات الهابطة. فمتى تعيش هذه الأسر السعادة؟! متى تتذوق حلاوة الإيمان ولذة الاستقرار. نسأل الله العفو والعافية..

الحمد لله {الذي يقبل التوبة عن عباده.ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد.}ـ الشورى 25/26 ـ واشهد أن لاإله إلا الله الملك الحق المبين واشهد أن محمدا رسول الله إمام الأنبياء وسيد المصلحين.اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.أما بعد،أخرج البخاري ومسلم عن أم عطية قالت: أَخَذَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ فِي الْبَيْعَةِ:(أَلاَّ تَنُحْنَ)، فَمَا وَفَتْ مِنَّا غَيْرُ خَمْسٍ، مِنْهُنَّ أُمُّ سُلَيم. أم سُلَيم من اللواتي وفين في الحين، ولم يشترطن ولا تلكأن،طلّقت النياحة وما كانت نساء الجاهلية تفعلنه حزنًا على موتاهن.كما كانت غايةَ في حسن التلطف والتودّد إلى زوجها في كل حال. أخرج مسلم وأحمد وأبو داود عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ ابْنٌ لأَبِي طَلْحَةَ يَشْتَكِي، فَخَرَجَ أَبُو طَلْحَةَ فَقُبِضَ الصَّبِيُّ، فَلَمَّا رَجَعَ أَبُو طَلْحَةَ قَالَ: مَا فَعَلَ ابْنِي؟ قَالَتْ أُمُّ سُلَيم: هُوَ أَسْكَنُ مِمَّا كَانَ، فَقَرَّبَتْ إِلَيْهِ الْعَشَاءَ فَتَعَشَّى ثُمَّ أَصَابَ مِنْهَا،فَلَمَّا فَرَغَ قَالَتْ: وَارُوا الصَّبِيَّ.فَلَمَّا أَصْبَحَ أَبُو طَلْحَةَ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ:(أَعْرَسْتُمُ اللَّيْلَةَ؟)قَالَ: نَعَمْ، قَالَ:(اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمَا).فرزقهم الله تسعة من الأولاد كلهم قرؤوا القرآن الكريم. ثم إن هذه الأسرة ـ أيها الإخوة الكرام ـ كانت قمة في الكرم والجود. فمما يُروى عن هذه الأسرة الطيبة أن أبا طلحة خرج يومًا فوجد الرسول يعلّم أهل الصفة سورة النساء ولاحَظ أن النبي قد عصب بطنه من شدة الجوع، فأثَّر هذا في نفس أبي طلحة، فجاء إلى أم سُلَيم فقال لها: يا أم سُلَيم، لقد رأيت رسول الله يعصب بطنه من شدة الجوع،فهل لديك شيء من الطعام؟ فقالت له: إذا جاءنا الرسول وحده أشبعناه. فأرسل أنس بن مالك إلى الرسول .قَالَ أنس: بَعَثَنِي أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ لأَدْعُوَه وَقَدْ جَعَلَ طَعَامًا،قَالَ:فَأَقْبَلْتُ وَرَسُولُ اللَّهِ مَعَ النَّاسِ،فَنَظَرَ إِلَيَّ فَاسْتَحْيَيْتُ ،فَقُلْتُ:أَجِبْ أَبَا طَلْحَةَ،فَقَالَ لِلنَّاسِ: (قُومُوا) فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا صَنَعْتُ لَكَ شَيْئًا. قَالَ: فَمَسَّهَا رَسُولُ اللَّهِ وَدَعَا فِيهَا بِالْبَرَكَة،ِ ثُمَّ قَالَ:(أَدْخِلْ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِي عَشَرَةً)، وَقَالَ:(كُلُوا)، وَأَخْرَجَ لَهُمْ شَيْئًا مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِه،ِفَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا فَخَرَجُوا، فَقَالَ:(أَدْخِلْ عَشَرَةً) فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، فَمَا زَالَ يُدْخِلُ عَشَرَةً وَيُخْرِجُ عَشَرَةً حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلاَّ دَخَلَ فَأَكَلَ حَتَّى شَبِعَ، ثُمَّ هَيَّأَهَا فَإِذَا هِيَ مِثْلُهَا حِينَ أَكَلُوا مِنْهَا.وفي أسرة أبي طلحة في الراجح نزل قوله تعالى: وَيُؤثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9] كما كانت هذه الأسرة في طليعة العاملين لنشر دين الله تعالى. سبقت الإشارة إلى بلاء أبي طلحة رضي الله عنه في ميادين الجهاد والفداء، وسبق ذكر جهاد البراء رضي الله عنه، وما أكرمه الله به من الشهادة في سبيله. قال البخاري: حدثنا موسى، حدثنا إسحاق بن عثمان: سألت موسى بن أنس: كم غزا أنس مع النبي ؟ قال: ثماني غزوات.ولم تكن أم سُلَيم رضي الله عنها لتحرم نفسها من مرافقة الرسول في غزواته، فقد كانت مجتهدة في الخروج معه وتحمل المشاق في مساعدة المقاتلين ومداواتهم والقتال معهم إذا اقتضى الحال. ومن ألطف ما يروى عن شجاعتها وثباتها ما حصل في غزوة حنين. أخرج مسلم وأبو داود عن أنس أن أم سُلَيم اتخذت يوم حنين خنجرًا فكان معها، فرآها أبو طلحة، فقال: يا رسول الله، هذه أم سُلَيم معها خنجر! فقال لها رسول الله :(ما هذا الخنجر؟) قالت: اتخذته إن دنا مني أحد من المشركين بقرت به بطنه، فجعل رسول الله يضحك، قالت: يا رسول الله، اقتُلْ مَن بعدَنا من الطلقاء انهزَمُوا بك، فقال رسول الله :(يا أم سُلَيم، إن الله قد كفى وأحسن).هذه ـ إخواني ـ هي أسرة أم سُلَيم،وهذه بطاقة تعريف لعناصرها البارزة،وتلكم هي المبادئ التي تأسست عليها وعاشوا لأجلها، فغنموا السعادة والريادة في الدنيا، والفوز برضوان الله ورسوله، وذلك هو الفوز العظيم.
جعلني الله تعالى وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه .أسأل الله أن يجعلنا وذرياتنا من الطيبين المطيبين، اللهم أدخلنا دارَ الطيبين يا رب العالمين...اللهم ليّن ألسنتا بذكرك وشكرك، وأصلح قلوبنا بهدايتك، واغفر لنا بحِلمك، وارحمنا بعفوك وفضلك، إنك غفور رحيم. اللهم انصر دينك وكتابك وسنة رسولك وعبادك المؤمنين . وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

جمعة 4 جمادى الأولى 1429 / 9 ماي 2008
مسجد الرحمن ـ دبيلت ـ هولندا