خطب ومحاضرات

حاجتنا إلى القدوة الحسنة

kh11

 قال الله تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21].في هذا التوجيه الرباني دعوة إلى كل ذي عقل رشيد أن يضع نصب عينه أخذ الأسوة والقدوة من سيد الخلق أجمعين،محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، في أقواله وأفعاله، في مناهجه وشمائله وأخلاقه وسلوكيّاته، فهو المثل الكامل للإنسانية، وهو المخاطب من قبل ربه بهذا القول:{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُور [الشورى:52، 53]،

أيها المسلمون،في الظروف المحيطة اليوم بالأمة الإسلامية ما أحوجنا إلى الأسوة الحسنة والقدوة الصالحة، فهي النهج الراشد والطريق المستقيم الذي لا اعوجاج فيه ولا التواء.وفي طليعة من يجب أخذ الأسوة الحسنة منهم والاقتداء بأفعالهم وأقوالهم رسلَ الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فهم الصفوة من خلق الله، المهتدون بهداية الله، المسارعون إلى فعل الخير والحرص عليه، قال الله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:90]. وقد أمر الله تعالى رسوله الكريم بالاقتداء بهم والسير على نهجهم حيث قال: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ [الأنعام:90] وإذا كان الحبيب محمد مأمورًا بأخذ الأسوة والقدوة من سلفه رسل الله فنحن أحرى أن نأخذها منه ، كما وجهنا إلى ذلك ربّ العزة.القدوة الحسنة أيها الإخوة الكرام عنصر هامّ في كل مجتمع،فمهما كان أفراده صالحين فهم في أمس الحاجة لرؤية القدوات.وتشتدّ الحاجة إلى القدوة كلما بَعُد الناس عن الالتزام بقيم الإسلام وأحكامه، وتتأكد الحاجة بل تصل إلى درجة الوجوب إذا وُجدت قدواتٌ سيئةٌ فاسدةٌ تُحْسِن عرضَ باطلها.إن القدوةَ ـ سواءً أكانت حسنةً أو سيئة ـ أكثرُ أثرًا وإقناعًا من الكلام النظري مهما كان بليغًا ومؤثرًا، ولعل هذا هو السرُ في أن اللهِ ارسل رسلاً من البشر عبر التاريخ مع أنه تعالى قادر ـ وهو الذي لا يعجزه شيء ـ على أن يلهم الناس شرعه وطريقه المستقيم بدون رسل.ولكن اقتضت حكمته إرسال الرسل وأن يكونوا بشرا ليكونوا منارات هدى وقدوات حسنةً عبرالتاريخ، فهم التطبيق النموذجي لشرع الله في كل عصر، وتطبيقهم حجةٌ على العباد ودليلٌ على واقعيةِ الشرع.وأوضح دليل على هذا الأثر ما وقع في يوم الحديبية، ففي صحيح البخاري قال عمر: فلما فَرغ من قضية الكتاب ـ أي: بنود الصلح ـ قال رسول الله لأصحابه: (قوموا، فانحروا ثم احلقوا)قال: فوالله، ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت أم سلمة رضي الله عنها: يا نبيّ الله، أتحبّ ذلك؟ اخرُج لا تكلّم أحدًا منهم كلمةً حتى تنحر بُدْنك وتدعو حالقك فيحلقك، فخرج فلم يكلّم أحدًا منهم حتى فعل ذلك، نحر بُدْنه ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضًا. هذا التأثيرَ القويَ والمباشرَ للقدوة يرجع إلى عدة أسباب منها:أن الإنسان مفطور على حب التقليد، وكثيرًا ما يكتسب معارفَه وخبراته ومهاراته بالتقليد والمحاكاة، انظر إلى الطفل كيف يقلد أباه ويتقمص شخصيته؛ لأن التعلم بالرؤية والمشاهدة أسهلُ وأيسر بل وأسرع. أيها المسلمون، ويأتي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخذ الأسوة والقدوة الحسنة من خيار الأمة، وفي طليعتهم أهل القرون المفضّلة المشهود لهم بالهداية، قال عليه الصلاة والسلام: (خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم).وهكذا في كل زمان يجب أخذ الأسوة الحسنة من أهل الفضل،من العلماء العاملين بعلمهم، المخلصين لدينهم، الذين يتقون الله في سرهم وعلانيتهم، الذين يقولون كلمة الحق بدون خوف ،لا تأخذهم في الله لومة لائم، الذين لا ينافقون ولا يجاملون. فهؤلاء العلماء ،في السير على هدايتهم والاقتداء بأفعالهم فلاح وفوز في الدنيا والآخرة. أما الأسوة السيئة التي تَبَنّتْها المجتمعات الإسلامية في العصر الحاضر وفي كل مجالات الحياة فهي في الواقع وفي الحقيقة نكسة ومصيبة في الدين والأخلاق، يجب أن يترفّع عنها المسلم حفاظًا على دينه وإيمانه، وحفاظا لأخلاقه، حتى ولو انتشرت هذه الأسوة السيئة بين الناس، وشملت جميع الطبقات والفئات، حيث أصبح يمثلها العلماء الذين لا يعملون بعلمهم، ولكن يقصدون به المنصب والجاه والسلطان، وأصبح يمثلها الوعّاظ والمرشدون الذين يصفون الدواء للأمراض التي هم بها مصابون، فمخبَرهم لا يطابق مظهرهم، فبئست الأسوة والقدوة بهم، قال الله تعالى:{ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُون [البقرة:44]. ويمثلها أيضًا المسؤولون من حكام ووزراء ونواب الأمة الذين لا يقدّرون مسؤولياتهم ، بل يعبثون بمصالح الناس و يتلاعبون بحقوقهم، يظهرون للناس من ألوان العظمة الكاذبة ما يستر ضعفهم وفشلهم، وفي الناس من هو خير منهم دينًا وخلقًا وعلمًا. ويمثلها أيضًا النساء المتبرّجات، المائلات المميلات، المنتشرات في الشوارع والأسواق وفي وسائل الإعلام. ويمثلها أيضًا احتكار التجّار وغشّ الصناع وجشع البائعين واليمين الفاجرة من شاهدي الزور.وتمثّلها أيضًا وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة، هذه الوسائل أصبحت تعمل جاهدة على نشر الرذيلة بمختلف صورها وأشكالها بين الناس، وبخاصة طبقة الشباب، وذلك من أجل إنشاء جيل منحرف عن تعاليم الدين وعن الأخلاق الفاضلة..إنّ هذه المظاهرَ الشاذةَ لهي دليلٌ قويٌ على الشعور بالنقص والانهزام النفسي، وصدق ابنُ خلدون في قوله: "المغلوب مولعٌ بتقليد الغالب أبدًا".وإذا كنا قد عَجَزنا عن تحصين أبنائنا وشبابنا ضدّ هذه الفضائيات وبرامِجِها الفاجرةِ التي لا تعلّم إلا قلةَ الأدب ونزعَ الحشمة والحياء في الجملة، والتي يقوم عليها أناس لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمّة، فهل نحن عاجزون عن إيجاد البديل لتلك القدوات السيئةِ المنحرفةِ وهو القدوات الحسنة؟!إن النتيجة من وراء تفشّي أمثال هذه الرذائل وانتشار هذه الموبقات في أوساط المسلمين،النتيجة هو مستقبل مظلم مخيف، يُنذِر بحلول النقمة وسوء المصير، قال الله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال:25]،وقال أيضًا:{إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ [الرعد:11].إنّ القدوة ليس لقبًا خاصًا بأنواع محدّدة في المجتمع، كلا، بل هو وصف عام لكل مسلم. صحيح أن بعض الفئات يجب أن يكونوا قدوات صالحة في المجتمع؛ لأنّ عدم ذلك يعنى الفتنة والصدّ عن دين الله، لكنه لا يلغي التّبعة عن الآخرين.فالمسلمُ الذي يعيش بين ظهراني الكفرة ينبغي أن يكون قدوة لهم وممثّلاً للإسلام؛ لعله أن يكون سببًا في دخولهم الإسلام كما حصل في تاريخ الإسلام. وأهلُ الطاعة ينبغي أن يكونوا قدوة لأهل المعصية؛ بظهور أثر الطاعة وثمارها كالأمن النفسي وإثبات قوة الإرادة.والمدرسُ قدوةٌ لطلابه، فأيّ هدم للقيم يتسبّب فيه المدرس بانحيازه لبعض الطلاب؟! والأب لأبنائه، فأيّ هدم للقيم يباشره الأب حين يكذب أمام أبنائه مهما كان المبرّر كالتّلفون؟! والحاكم لشعبه، فأيّ مصيبة تقع عندما يظلم الحاكم شعبَه أو لا يقيم العدل بينهم؟! والرئيس لمرؤوسيه، فأي دعوة للتسيب يبثها الرئيس بين موظفيه بتأخره عن الدوام دائمًا؟! والداعية لمن يدعوه، فأي فتنة يحدثها الداعية للمدعو حين يعاهده ويخلف؟!فهؤلاء الأصناف لا مندوحة لهم ولا خيار لهم أن لا يكونوا قدواتٍ صالحةً؛ لأنهم تحت المجهر والمراقبة شاؤوا أم أبَوا،فهل يستشعرون مسؤولياتهم؟! وهل يحسبون خطواتهم؟!أيّها الإخوة، لكل دعوى دليل، فما دليل دعوانا؟ خمس خصال هي الحدّ الأدنى لصدق الدعوى: 1- الاستقامةُ على منهج الله؛ وذلك بسلامة المعتقد وأداء الفرائض والتخلق بأخلاق الإسلام واجتناب الكبائر.2- موافقةُ الأفعالِ للأقوال، ويكفي قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ [الصف:2، 3].3- البعدُ عن مواطنِ الشبهات، قال رسول الله: (فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه) وإذا رُئي في موطن الشبهة بيَّن ذلك، فقد فعله من لا يشَكّ فيه البتّة سيدُ المرسلين، فقال: (على رسلكما، فإنها صفية) أي: زوجته رضي الله عنها.4- التقليلُ من الترخّصِ وتغليبُ الأخذِ بالعزائم، قال تعالى:{ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ [الأحقاف:35].5- إتقانُ العمل الذي هو من تخصصك مصداقا لقولُ المصطفى: (إن الله يحبّ إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه). فاتقوا الله أيها المؤمنون، وتداركوا أمركم، واجتنبوا الرذائل، وأصلحوا ذات بينكم، وخذوا الأسوة الحسنة من هدي الرسول الكريم وهدي خلفائه الراشدين وأصحابه الغرّ الميامين، ومن حملة الفقه والدين، ومن العلماء العاملين، ثم عليك أيّها المقتدي أن تعلم أن القدوة مهما حرص على الكمال فهو بشر غير معصوم، وعملُه ليس حجة على الإسلام، بل الحجة قال الله قال رسوله، فالتمس لأخيك العذر عند التقصير، وإذا أبيتَ إلا اللوم فلُم نفسك أولاً، فقد قال الله تعالى: بَلْ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ [القيامة:14، 15].أقول ما تسمعون واستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الحمد لله، غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير، واشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، يسبح له ما في السماوات وما في الأرض له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا وإمامنا وأسوتنا وحبيبنا محمداً عبدالله ورسوله البشير النذير والسراج المنير، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته واهتدى بسنته وجاهد جهاده إلى يوم الدين، أما بعد،،،يقول صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود والترمذي من حديث أنس:(عرضت عليَّ أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد)، والقذاة هي الأوساخ الصغيرة جدّا من تراب أو تبن أو غيره. فانظروا إلى شدّة صغر هذا الشيء وكيف حُفظ في ميزان الله الذي لا يضيع عنده شيء سبحانه.ونحن نريد أن نكون كلنا قدوة .قدوة لبعضنا البعض وقدوة للآخرين.وهذا المسجد نريد أن يصير قدوة بإذن الله لجميع مساجد المنطقة شكلا ومضمونا فالعبرة ليست بالحجم أو الزخرفة ولكن بالنظام والهدى والعلم وتخريج أفواج من المؤمنين العالمين العاملين بإخلاص لإعطاء الصورة الحسنة للإسلام والمسلمين في هذه البلاد. لهذا وجب علينا أفرادا وجماعات صغارا وكبارا أن نعطي للمساجد حقها من الرعاية المادية بصيانتها والمحافظة على مرافقها وأثاثها،والمحافظة على الماء والكهرباء وكل ما من شأنه أن يكلف صندوق المسجد، فهذا مال عام يجب المحافظة عليه أكثر مما تحافظ على مثله في بيتك.ثم لابد من الرعاية المعنوية بإجلالها وتقديرها وغض الأصوات فيها وتعميرها بذكر الله. إننا بخدمتنا للمسجد ،بالمال أو بالعلم أو بالتعليم أو بالنظافة والصيانة والحراسة ، إنما نخدم بيت الله الذي يقصده ضيوف الله سبحانه، ويجب أن تشكر الله عز وجل أن اختارك من بين الخلق فسخّرك لخدمة بيته ـ فلا بد أن يقوم كل منا بما يستطيعه في خدمة هذا البيت والمحافظة عليه والعمل فيه بما يرضي الله سبحانه. إننا اليوم أمام خيار لا خيار لنا غيره؛ وهو أن نقدم لديننا وأن نعيش له حتى نلقى الله وقد قدمنا شيئاً لهذا الدين.وإلا فما قيمة الحياة إذا كانت خاوية من السعي المشكور؟! ما قيمة الحياة إذا لم تعمر بالعمل الصالح المبرور؟! وماذا تغني الدنيا كل الدنيا بأيامها المعدودة وأعوامها المحدودة إذا لم يقدم المرء بين يديه أو يخلّف من ورائه من الصالحات ما يشفع له عند مولاه إذا انتقل إليه؟! ألا فأبعدوا وجوهكم عن النار،ولو بشق تمرة.

 

محمد وحيد الجابري
جمعة18 شعبان1428/31 أغسطس2007
مسجد الرحمن ـ دبيلت / هولندا