خطب ومحاضرات

الوسطية في الإسلام

pers._008

سئل ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ :ما الصراط المستقيم ؟ فقال: تركَنا محمد في أدناه ، وطرفه في الجنَّة، وعن يمينه جوادُّ، وعن يساره جوادُّ ـ يعني طرقًا شتى ـ وثَمّ رجال يدعون مَن مرَّ بهم، فمن أخذ في تلك الجوادِّ  انتهت بهم إلى النار، ومن أخذ على الصراط المستقيم انتهى به إلى الجنة.ثم قرأ ابن مسعود:(وأن هذا صراطي مستقيمًا فاتَّبِعوه ولا تتَّبِعوا السُّبُلَ فتَفرَّقَ بكم عن سبيلِه) [ الأنعام:31]

الحمد لله القاهر. خلق الخلق من غير سبق .فطر السماوات والأرض بقدرته، ودبر النور في الدارين بحكمته، وما خلق الإنس والجن إلا لعبادته، فالطريق إليه واضح ، ولكن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء، وهو أعلم بالمهتدين،وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،أكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة ورضي لنا الإسلام ديناً، والصلاة والسلام عليك يا سيدي يا رسول الله،صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين وعلى آلك وأصحابك وسلم.أما بعد: عندما ظهر الإسلام كان اليهود معروفين بالحِرْص على الحياة والحب القوي للمال، كانوا يتعاملون بالربا والسحت ، وكان المسيحيون يَرَوْنَ التقوى في الرهبانية والزهد واحتقار المال، حتى قيل في كتُبِهم :لأن يلج الجمل في سم الخياط أقرب من أن يدخل الغني ملكوت السماوات! وجاء الإسلام فرفض مسلك اليهود ومسلك النصارى، واعتبرَ المال وسيلة لما بعده،قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن هذا المال خَضِر حُلو! ونعم صاحب المسلم، هو لمن أعطَى منه اليتيمَ والمسكينَ وابنَ السبيل . وإن من يأخذه بغير حق كمن يأكل ولا يشبع،ويكون عليه شهيدًا يوم القيامة"في تعاليم اليهود كانت الصرامة والقسوة هي التقوى وكأن التقوى عقوبة لكل ذنب، فجاء عيسى ـ عليه السلام ـ يتحدث عن القلوب الرقيقة والبشرية الضعيفة الفقيرة إلى عفو الله. وقالوا: إنه ترك امرأة متَّهمة بالإثم، وقال لليهود: مَن كان منكم بلا خطيئة فليتقدم ليرجمها!والحق أن عيسى ـ عليه السلام ـ لم بستهن بجريمة الزنا، ولكنه كما روى الإمام مالك عنه يقول: لا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب،وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد، فإنما الناس مبتلًى ومعافًى،فارحموا أهل البلاء واحمدوا الله على العافية.لما جاء الإسلام رفض العبادة المرتبطة بالكبر والاستعلاء على الناس ويسَّر التوبة لكل مذنب وأمر بستره والتجاوز عنه وأقرَّ العقاب لمَن يجاهر بالمعاصي ويؤذي المجتمع! يقول علي بن أبي طالب:الفقيه كل الفقيه مَن لم يقنِّط الناس من رحمة الله،ولم يؤمِّنهم مكره .الإسلام دين وسط  يأمر الأمة بالتزام الصراط المستقيم ويُحَذِّرها من الخطوط المنحرفة يمينًا و يسارًا.قال الله تعالى:﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدً ﴾ [ البقرة: 143] الوَسَط اسمٌ لما بيْن طَرَفَي الشَّيء، وقد يُطْلَقُ على ما لَه طرَفانِ مَذْمُومانِ كالجُودِ بيْن البُخْل والسَّرَف . فالوَسَطُ الخِيَّار،ووَسَطُ الوادِي خَيْرُ مكانِ فيه، ويُقَالُ فُلانُ وسَطٌ في قوْمِه، إذا كان أوْسَطَهم نسَباً وأرْفَعهم مَجْداً، وقد جاء فى صِفَةِ نبِّينا - صلى الله عليه وسلم- أَنَّه كان من أوْسَطِ قَوْمِه أيْ خِيارهم، وجعلَ اللهُ أُمَّته وسَطاً أي خِياراً. والمقصود بالتوسُّط أَنْ يتحرَّى المُسْلِمُ الاعتدالَ ويبْتَعِدَ عن التطرُّف في الأقْوالِ والأفْعال بحيثُ لا يَغْلُو ولا يقصِّر،لا يُفرْط ولا يُفرِّط.فإِنَّ الإفْرَاطَ والتَّفريطَ مذمُومانِ وقد نهىَ اللهُ عنهما وذمَّ أهلَهما، فقال تعالى:﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلاَ تطغوا ﴾[ هـود:112]وقال تعالى:﴿ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَاءَ مَا يَزِرُونَ ﴾[ الأنعام:31] وقد نهى اللهُ تعالى عن طاعةِ هؤلاءِ وأمر بمخالفتهم فقال تعالى:﴿ وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ﴾[ الكهف:28] فإذا ابتعدَ الإنسانُ عن الإفْراطِ والتَّفريط فقد اعتدلَ على أوْسَطَ الطريق واستقامَ على الصِراطِ المستقيم كما أمر الله ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ﴾[ الأنعام:153] وقد أمر اللهُ تعالى عبادَه المؤمنينَ أَنْ يسألوه﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ ﴾[ الفاتحة6: 7] فالمغضوبُ عليهم وهم اليهودُ فرّطوا وقصَّروا،والضَّالين وهم النَّصارى غَلَوْا وأَفْرَطُوا وتشدَّدوا حتى ابْتدَعُوا،والصِّراطُ المستقيمُ الذي هدى اللهُ إليه النبِّيين والصِّديقينَ َوالشُّهداءَ والصَّالحين هو العَمَلُ بالعِلْم في غَيْرِ إفْرَاطٍ ولا تفريط، وقد أنعم الله على أمة محمدٍ - صلى الله عليه وسلم- بالهداية إلى هذا الصِّراطِ المستقيمِ فكانُوا بذلك أُمَّةً وسطاً. سئل ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: ما الصراط المستقيم؟ فقال: تركَنا محمد في أدناه، وطرفه في الجنَّة، وعن يمينه جوادُّ،وعن يساره جوادُّ ـ يعني طرقًا شتى ـ وثَمّ رجال يدعون مَن مرَّ بهم، فمن أخذ في تلك الجوادِّ انتهت بهم إلى النار،ومن أخذ على الصراط المستقيم انتهى به إلى الجنة. ثم قرأ ابن مسعود:(وأن هذا صراطي مستقيمًا فاتَّبِعوه ولا تتَّبِعوا السُّبُلَ فتَفرَّقَ بكم عن سبيلِه)(الأنعام: 153)وقد كَثُرَتْ الآياتُ القرآنيَّةُ والأحاديثُ النبويَّةُ في الأمرِ بالوسَطيَّة والحَثِّ عليها ومَدْحِ أَهْلِها قال تعالى ﴿وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا ﴾ [الإسراء:29} وقال تعالى:﴿ يَا بَنِي ادم خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾[ الأعراف :31] وقال تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ﴾[المائدة87،88] وقال  تعالى:﴿ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾[ الأعراف: 55]وقال تعالى:﴿ وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآَصَالِ وَلاَ تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ ﴾[ الأعراف :205] وقال تعالى:﴿ وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً ﴾[ الإسراء:110]وقال تعالى: ﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا ﴾[ الأنبياء:90 ] وقد وردت الأحاديث التي تحذر من الغلو،فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة جمع (المزدلفة) : «هلمَّ القط لي الحصى» فلقطت له حصيات من حصى الخذف، فلما وضعهن في يده قال: «نعم، بأمثال هؤلاء، وإياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين» رواه أحمد. وكم من  المسلمين اليوم من يخالف هدي النبي صلى الله عليه وسلم ويقع في الغلو برميه بالحصى الكبار،فيغلو في دينه ويؤذي إخوانه. وقال صلى الله عليه وسلم:«هلك المتنطعون» قالها ثلاثاً رواه مسلم. والمتنطعون : المتعمقون المغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم.وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن هذا الدين يسرٌ، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة، وشيء من الدلجة» أخرجه البخاري. قال ابن حجر: والمعنى: لا يتعمق أحدٌ في الأعمال الدينية، ويترك الرفق إلا عجز وانقطع، فيغلب. وعَنْ بُرَيْدَةَ الأَسْلَمِيِّ قَالَ: خَرَجْتُ ذَاتَ يَوْمٍ لِحَاجَةٍ فَإِذَا أَنَا بِالنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم- يَمْشِي بَيْنَ يَدَيَّ فَأَخَذَ بِيَدِي فَانْطَلَقْنَا نَمْشِي جَمِيعًا فَإِذَا نَحْنُ بَيْنَ أَيْدِينَا بِرَجُلٍ يُصَلِّي يُكْثِرُ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم :( أَتُرَاهُ يُرَائِي؟ فَقُلْتُ:اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. فَتَرَكَ يَدِي مِنْ يَدِهِ ثُمَّ جَمَعَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يُصَوِّبُهُمَا وَيَرْفَعُهُمَا وَيَقُولُ: عَلَيْكُمْ هَدْيًا قَاصِدًا عَلَيْكُمْ هَدْيًا قَاصِدًا عَلَيْكُمْ هَدْيًا قَاصِدًا فَإِنَّهُ مَنْ يُشَادَّ هَذَا الدِّينَ يَغْلِبْهُ).الغلوُّ في الدين قد ينتُج عن خطأ في الفكر أو عِوَج في الطبع، وغالبًا ما يَزيغ بصاحبه عن الحق وينتهي بالانسلاخ عن الدين  الصحيح، لذلك يقول الله تعالى لنبيه: (قل يا أهلَ الكتابِ لا تَغلُوا في دينِكم غيرَ الحقِّ ولا تتَّبِعوا أهواءَ قومٍ قد ضلُّوا من قبلُ وأضلُّوا كثيرًا وضلُّوا عن سواءِ السبيلِ) (المائدة: 77).هناك مَن يبالغ في التعبُّد فينحرف يمينًا بالابتداع والحماس الكاذب وهناك من ينحرف يسارًا بالإهمال والتفريط حتى ينتهي به الأمر والعياذ بالله إلى الجحود أو الكفر.الإسلام يجعل التوسُّط فضيلة في شئون الدين والدنيا جميعًا، ففي مجال التعبُّد يرفض الإسلام الجهد المُتعب ويُؤْثِر الاعتدال المستمر، قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "إن لكلِّ شيءٍ شِرَّةً" حماسًا ونشاطًا "ولكل شِرَّةٍ فَترةٌ" برودًا وعجزًا فإن صاحبُها سدَّد وقارَب فارجُوه، وإن أُشِيرَ إليه بالأصابع فلا تَعُدُّوه". وفي شئون الدنيا يكره الإسلام التبذير والتقتير ويحب الإنفاق المعقول،وقد وصف الله عباد الرحمن فقال: (والذين إذا أنفَقُوا لم يُسرِفوا ولم يَقتُروا وكان بينَ ذلك قَوامًا)(الفرقان: 67).في مجال العلم الديني تجد ناسًا لهم فقه واسع، ومحفوظات كثيرة، لكن قلوبهم قاسية جافة، تولَّى أحدهم القضاء، وقَدِمت إليه امرأة متهمة بالزنى، فما زال يستدرجها ويمكُر بها حتى اعترفت،وحكم برَجْمِها، لأنها متزوجة! رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يفعل هذا. كان يرشد المتهم ليفر من العقاب ويتراجع عن قراره، ويتحايَل عليه لينصرف آمنًا. أما هذا القاضي فإنه احتال على المُذنِب ليقتله! وهذا ليس من أسلوب الإسلام.والوسطية فضيلة من فضائل هذا الدين الحنيف ،نجدها ظاهرة في توجيهاته الاجتماعية والاقتصادية  ففي العلاقة بين الرجال والنساء مثلاً يرفض الإسلام أن تكون نظرة الرجل للمرأة نظرة السجان أو الصياد!البيت هو المَحضَن الذي تتولى فيه المرأة تربية الجيل الجديد وتنشئته على  تعاليم الدين وتقاليده،وليس البيت سجنًا كما يفهم ذلك بعض من يعبدون التقاليد والعادات.كما أن البيت ليس مكان مؤقت للأبوين والأولاد كما هو الحال في أوربا والغرب عموما حيث الأسرة شكل فقط لا موضوع له.لو تمسكنا بوسَطِيَّة الإسلام لكان ذلك أرضى لله وأسعد للأمة وأزكى للرجل والمرأة.في الناحية الاقتصادية أقَرَّ الإسلام حق المِلْكية الفردية،ولكنه ربط ذلك بقيود الحلال والحرام فضَمِن الإنتاج الوافر،وحَفِظ الجماعةَ من التفكك لأن التواصيَ بالرحمة لم يترك ثغرة إلا سدَّها.كان من المفروض أن المسلمين يتعلمون من نبيهم هذه الحقائق ويطبقونها،فإن الله سائلهم عن الهدى الذي جاء به نبيهم صلى الله عليه وسلم؛ هل انتفعوا به ونفعوا به الناس؟(فكيفَ إذا جِئْنَا من كلِّ أمةٍ بشهيدٍ وجِئْنا بكَ على هؤلاءِ شهيدًا)(النساء: 41) نعم،محمد شهيد على المسلمين وسيُدلي بهذه الشهادة أمام الله. كما أن المسلمين سيُسْأَلون؛ هل علَّموا كما تعلَّموا؟الأمم كلها مُكَلَّفة أن تسمع منهم وتستفيد! وهم شهداءُ على الأمم لأنهم حمَلَة الرسالة الخاتمة ومُبَلِّغو "الوسطية" التي شرحناها،وكما كان محمد أستاذًا لهم فهم أساتذة لسائر شعوب الأرض!ذلك معنى قوله تعالى(وكذلك جعلناكم أمّةً وَسَطًا لتكونوا شهداءَ على الناس ويَكونَ الرسولُ عليكم شهيدًا) (البقرة: 143).لكن المؤسف أن الأمة المكلَّفة بالتبليغ فرَّطت في البلاغ والتعليم! بل فرطت في العمل والتأسي بنبيها واتباع هديه! بل لقد أصبحت اليوم ذيلاً وتبعا لأحزاب اليمين واليسار في الشرق والغرب ونسيت الصراط المستقيم! اللهم افتح مسامع قلوبنا لذكرك وارزقنا طاعتك وطاعة رسولك.....

 

الحمد لله {الذي يقبل التوبة عن عباده.ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد.}ـ الشورى 25/26 ـ واشهد أن لاإله إلا الله الملك الحق المبين واشهد أن محمدا رسول الله إمام الأنبياء وسيد المصلحين.اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين أما بعد: الوسطيَّةَ من خَصائصِ هذه  الأُمَّة وهي سببُ خَيْريَّتِها،وستبقى الأُمَّةُ بخَيْرٍ إذا ما حافَظَتْ على هذه الخَاصيَّةِ التي تتميَّزُ بها. لأنها تُمثِّلُ الاعتدالَ والاستقامةَ على صِراطِ اللهِ- عزَّ وجلَّ- فإِذا خرَجتْ الأمة عن الوسَطِ إلى أحَدِ جانِبَيْه ففرّطَتْ أو أَفْرَطَتْ فقد هلَكت.الَّذِي يُفَرّط في حِقِّ اللهِ ويُقْصِّرُ في القِيَام به مُتَطَّرِّف،سواءٌ تَركَ الصَّلاةَ أو منعَ الزَّكاةَ أو تركَ صِيَامَ رمضانَ أو تَركَ الحَجَّ مع القُدْرَةِ عليه فهذا إنْسَانٌ متطرِّفٌ لأنه إذا ضيَّع حقَّ اللهِ فإنه لغَيْره من الحقوقِ أشدَّ تضييعاً،فهو لا يبرُّ أبويْه،ولا يصل رَحِمَه،ولا يُكْرِمُ اليتيمَ،ولا يحض على طعام المسكين،مُنْتَهِكٌ للأعراض، سالِبٌ للأمْوال، مفسد في الأرض فهو شرٌّ ووبَالٌ على المجتمع. كما أَنَّ الذي يتطَّرف إلى جِهَةِ الغُلُوِّ والتَّشدُّد والتَّزمُّت فإنه بعمله هذا يُوجِبُ ما لَيْس واجبا ، ويُحَرِّم ما لَيْسَ بمحرَّم، ويكفِّر المسلمينَ ويُفَسِّق الصَّالحين، فيثيرُ الفَوْضَى ويَسْعَى في الأرضِ فساداً ﴿وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾[ الكهف:104] إذا فكِلاَ الطَرفيْنِ يُخَالِفُون الآياتِ والأحاديثِ التي تَنْهَى عن التَّفْرِيط والإفراط وتدُعو إلى التَّوسُّطِ والاعْتدال .فالواجبُ على كلِّ مسلمٍ ومسلمةٍ أَنْ يُبعد نفسَه عن الإفْراطِ حتى يكونَ من هؤلاءِ الذين قال اللهُ فيهم:﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ [البقرة:143 ] ولتعلَمَوا أيها المسلمون أَنَّ الفضائلَ كلَّها مرتبطةٌ بعدمِ التَّفريط والإفْراط في الأمُور كلها. ولقد أحسنَ مَنْ قال: إذا خرجَ الشَّيءُ عن حَدّه انقلبَ إلى ضِدِّه، فالشَّجاعةُ إذا لم تُضْبَطْ صارَتْ تهوُّراً، والجُودُ إذا لم يُضْبَطْ صار إسْرافاً،والتَّواضُعُ إذا لم يُضْبَطْ صارَ ذِلَةً ومَهانةً وخُنُوعاً،وهكذا،وخَيْرُ الأُمُورِ أوسْاطها كما قال الحسَنُ البَصْرِي.وقال وهبُ بن مُنَبِّه: « إنَّ لكلِّ شيءٍ طرفيْن ووسطًا فإذا أَمْسَكَ بأحدَِ الطَّرَفَيْن مالَ الآخر، فإذا أمْسَك بالوَسَطِ اعتدَلَ الطَّرفَانِ فعلَيْكُم بالوسَطِ من الأشياء».عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِي اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: جَاءَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم- فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلاَ أُفْطِرُ، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلاَ أَتَزَوَّجُ أَبَدًا فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- إِلَيْهِمْ فَقَالَ:( أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي. وبهذه المناسبة ونظرا لتأخر وقت صلاة العشاء ودفعا للحرج المرفوع عن الأمة بنص القرآن فسنجمع بإذن الله ابتداء من الغد بين صلاتي المغرب والعشاء لما ثبت من حديث ابن عباس في صحيح مسلم "أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر،وبين المغرب والعشاء من غير خوف ولا مطر.قيل لابن عباس:ما أراد بذلك؟قال:أراد ألا يحرج أمته. ).نسأل الله تعالى أَنْ يثبِّتنا على صِراطِه المسْتقيم وأنْ يَعْصِمَنا من التطرُّفِ عنه إلى الإفْرَاط أو التَّفريط.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمةُ أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كلِّ خيرٍ، واجعل الموت راحةً لنا من كل شرٍّ.اللهم انفعنا بما علَّمتنا، وعلِّمنا ما ينفعنا، وزدنا علماً .اللهم أيقظ قلوبنا من الغفلات،وطهر جوارحنا من المعاصي والسيئات، ونق سرائرنا من الشرور والبليات، اللهم باعد بيننا وبين ذنوبنا كما باعدت بين المشرق والمغرب، ونقنا من خطايانا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس،واغسلنا من خطايانا بالماء والثلج والبرد، اللهم اختم بالصالحات أعمالنا وثبتنا على الصراط المستقيم بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، اللهم اجعلنا من المتقين الذاكرين الذين إذا أساءوا استغفروا،وإذا أحسنوا استبشروا،اللهم ألِّف بين قلوبنا ، وأصلح ذات بيننا، واهدنا سبل السلام، ونجِّنا من الظلمات إلى النور، وجنِّبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، وتُب علينا إِنك أنت التَّوَّاب الرحيم. اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد.اللهم ومن أراد بالإسلام والمسلمين خيراً فخذ بيده إلى كل خير أينما كان، ومن أراد بالإسلام والمسلمين شراً فخذه اللهم أخذ عزيز مقتدر أينما كان. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

                                                                                                                                                                         

                                                                                                                                                                   ذ. محمد الجابري
                                                                                                                مسجد الرحمن / دبيلت – هولندا
                                                                                                            24جمادى الأولى1429 / 30-5-2008